عن “مغامرة” بوتين… المحسوبة بعناية

محمد مشموشي

994

يتضح شيئاً فشيئاً، وبعد أقل من شهر على مغامرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المحسوبة في سورية، أن مفاعيل هذه المغامرة وصلت إلى ذروتها ولم يعد ممكناً إخفاء أهدافها الحقيقية، أو حتى المناورة في شأنها على خلفية أنها لا تزال غير معروفة، كما يميل البعض إلى القول. فهذه المغامرة، كما يبدو، محسوبة بعناية من الأساس، وقوامها أنه بقدر ما يريد بوتين من خلالها توجيه «رسائل قوة» إقليمية ودولية (وداخلية روسية) تتعلق ببلاده وقضاياها ودورها في العالم، فقد حرص من البداية على أمرين اثنين: أولهما، عدم الاصطدام بالولايات المتحدة أو غيرها من الدول الأوروبية (فرنسا مثلاً) في الجو، وبتركيا والسعودية ومصر في السياسة، وثانيهما عدم المخاطرة بهز تحالفه القائم مع نظام بشار الأسد على ما هو عليه من تهافت، ولا مع إيران على رغم ممارساتها المذهبية، والتوسعية الإمبراطورية، في سورية كما في العراق واليمن وغيرها.
وأداة بوتين في ذلك، خطابه شبه اليومي الموجه إلى واشنطن والرياض وأنقرة وعواصم أوروبا أن تعالوا نتفق على تنسيق المواقف من الحرب السورية، وأولاً من التدخل الروسي فيها، ليس في الجو فقط حيث المقاتلات والصواريخ الباليستية المنطلقة من بحر قزوين، بل أيضاً في محاربة الإرهاب (بما فيه الجيش السوري الحر) كما في السياسة والاقتصاد وتبادل المعلومات حول أوضاع المنطقة والعالم عموماً.
أما عن الأهداف، فهي مروحة واسعة… منها البعيد المدى الذي يتصل بالقومية الروسية ودورها الامبراطوري السابق، بما فيه تاريخها الديني الأرثوذكسي في العالم، ومنها الآني الذي له علاقة بموطئ قدم روسيا على البحر الأبيض المتوسط، فضلاً عن قضية أوكرانيا وشبه جزيرة القرم والعقوبات الاقتصادية التي فرضت على موسكو بسببها، وليس بعيداً منها التاريخ القريب زمن الاتحاد السوفياتي وجمهورياته المترامية التي جعلت منه سدس مساحة الكرة الأرضية وثاني قوة عظمى في العالم.
وأما الآني جداً من الأهداف، فهو محاولة إنقاذ سورية (وليس بشار الأسد) من مخاطر كبيرة ليس أقلها التفتت إلى مناطق متناحرة، أو أقله إنقاذ ماء وجه روسيا نفسها من نحو خمس سنوات من «العداء للشعب السوري»، سياسياً وديبلوماسياً في الأمم المتحدة، وتسليحاً وتدريباً عسكرياً على الأرض السورية، وصولاً إلى نقل المبادرة فيها في نهاية المطاف من اليد الإيرانية المطلقة، كما هي الآن، إلى اليد الروسية في أي حل يمكن التوصل إليه.
وهكذا، في حسابات بوتين، لا مفر في النهاية من أن تصل مغامرته العسكرية في سورية إلى المربع التالي: أولاً، تنجح قوات الأسد، ومعها آلاف الجنود من «الحرس الثوري الإيراني» وميليشيا «حزب الله»، في استرداد بعض المناطق التي خسرتها في الفترة السابقة. يكون التدخل الروسي إذاً قد أعاد ميزان القوى على الأرض إلى ما كان عليه سابقاً… لتنفتح بالتالي أبواب البحث في حل سياسي على قاعدة «جنيف1» الروسية نفسها، والتي لا يعترض عليها أحد من الأطراف السورية ولا من الأطراف الإقليمية والدولية.
ثانياً، لا تفلح هذه القوات في عملها، على رغم كل شيء وعلى رغم الغطاء الجوي الروسي. تكون خطة بوتين هنا أيضاً قد حققت ما تعتبره أحد أهدافها: منع سقوط الأسد، أقله في صورة مفاجئة وفي الظروف الراهنة، والحيلولة في الوقت ذاته دون إقامة منطقة حظر جوي ما دامت الطائرات الروسية هناك، وبما يحول تالياً دون استيلاء «داعش» وغيره من التنظيمات الإرهابية على البلاد… لتنفتح هنا كذلك أبواب البحث في حل سياسي، لا يكون في قدرة الأسد ولا طهران، بعد فشلهما في العمليات البرية، أن يفرض شروطه عليه، بما في ذلك حتى دوره المثير للجدل في خلال المرحلة الانتقالية.
ثالثاً، في كلتا الحالين السابقتين، كما تفترض حسابات بوتين، تكون الاتصالات بين موسكو وواشنطن، وبينها وبين عواصم أوروبا، وبينها وبين الرياض والقاهرة وأنقرة، قد بلغت حداً من عدم الاختلاف، ليس حول سورية ونظامها السياسي فقط، إنما حول المنطقة كلها وربما أوكرانيا وشبه جزيرة القرم أيضاً.
وفي حسابات بوتين، أن الدور الذي لعبه في 2013 في إزالة الأسلحة الكيماوية السورية، ثم في 2014 في المفاوضات النووية بين الدول الست وايران وإشادة باراك أوباما العلنية به، من شأنهما أن يفسحا في المجال أمامه لتجربة القيام بـ «دور تاريخي» آخر هذه المرة، ضد الإرهاب الذي يخوض العالم كله حرباً شاملة ضده من جهة، وفي سورية لمحاولة حل أزمتها المديدة من جهة ثانية.
لكن هل نجحت المغامرة المحسوبة هذه حتى الآن، أو أنها، أقله، لم تفشل نهائياً بعد؟
ليس من المبالغة القول إن بوتين نجح حتى تاريخه، وإن يكن جزئياً، لأنه لم يسجل أي اصطدام من أي نوع، لا في الجو مع واشنطن ولا في السياسة مع الرياض أو أنقرة، منذ 30 أيلول (سبتمبر) الماضي. أكثر من ذلك، ما معنى أن يكتفي بوتين بوصف رد الفعل الأميركي عليه بأنه دليل على «تشوش ذهني» لدى واشنطن، وأن يكرر في الوقت ذاته تمسكه بـ «علاقات الصداقة القوية» القائمة بين بلاده وبين أنقرة، وأن يعلن وزير خارجيته سيرغي لافروف في مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره السعودي عادل الجبير»أن موسكو تتفهم موقف الرياض» من تدخلها العسكري في سورية ومن الوضع فيها، بينما كان الجبير يكرر أمامه أن لا مستقبل للأسد في هذا البلد؟
يعرف الرئيس الروسي أكثر من غيره، أنه لا يستطيع شن حرب سياسية وعسكرية واقتصادية تقلب الأوضاع في سورية لمصلحة الأسد ونظامه، ولذلك فهو لا يريد خوض هذه التجربة لا الآن ولا في الأمد القريب. ومن هنا، فهو يقوم بمثل هذه المغامرة المحسوبة بدقة بالغة لعله يتمكن من خلالها، وفي ظل اقتناع لديه بأن أحداً لا يملك حلاً ناجزاً وسريعاً لهذه الحرب، أن يحقق بعض أهدافه… بدءاً من سورية، إلى المنطقة العربية كلها، إلى أوكرانيا، إلى ما يقال عن حلمه القيصري في العالم.
فهل يستطيع؟

لا توجد تعليقات